تمثِّل الثروةُ السَّمكيَّة رافدًا مهمًّا من روافد سدِّ النَّقص الذي تُعانى منه معظم الدُّول العربيَّة في الإنتاج الحيواني، خاصةً وأنَّ الشواطئ العربية تمتد لمساحات شاسعة تبلغ 22.7 ألف كيلومتر. كما أنَّ الوطن العربيَّ لديه العديد من المسطَّحات المائيَّة الداخليَّة، والبحيرات والمستنقعات، والتي تبلغ نحو 3 مليون هكتار، إلى جانب الأنهار التي يبلغ طولُها ما يقرب من 16.5 ألف كيلومتر.
ورَغمَ كلِّ هذه المزايا الهائلة إلاَّ أنَّ الإنتاجَ السمكيَّ في الدول العربيَّة مازال محدودًا مقارنةً بإمكانياته، ويُعاني العديد من المشكلات، على رأسها التلوث.
اهتمام عربي:
وكما هو معروفٌ، تتميَّز إنتاجية الثروة السمكيَّة عن غيرها بأنَّها منخفضةُ التكاليف؛ إذ يبلغ معدَّلُ التحول الغذائي للكيلو فيها ما بين 1 : 1.2، في حين يبلغ نفس المعدَّل في الأبقار - مثلاً - ما بين 1 : 8 ، كما أنَّها مصدرٌ بديلٌ عن الإنتاج الحيواني للطبقات محدودة الدَّخل، إلى جانب غناها بالبروتينيات والعناصر المعدنيَّة المغذية للجسم، إلى جانب خُلوِّها من الكوليسترول، كما تستخدم مخلَّفات الأسماك في صناعة العلائق المستخدمة في تربية، وتسمين حيوانات المزارع والدَّواجن.
لذا، فقد شَهد العديدُ من الدول العربيَّة تطوُّرًا كبيرًا في تنمية ثرواتها السمكيَّة، خاصَّة الاستزراعَ السمكيَّ، على رأسها المملكة العربيَّة السُّعودية، وسلطنة عُمَان، والمغرب، وتونس، ومصر.
فقد أنشأتْ حكومةُ "مسقط" مركزًا لأبحاث تطوير الاستزراع السَّمكيِّ البحري، يرتكز بصورةٍ رئيسة على تعظيم العائد الاقتصاديِّ، والاجتماعيِّ، والغذائي المستدام لقطاع الثروة السمكيَّة بكل وسائل التقنية الحديثة، إلى جانبِ إنشاء قاعدة بيانات متقدِّمة ومتطورة؛ لتحديد المخزون السمكيِّ، والكميات القابلة للاستغلال على أُسس الاستدامة، والصَّيد الرشيد، وتحديد الأسواق المحليَّة والخارجيَّة لتلك الخامات في صورتها الأَوليَّة، أو بعدَ تصنيعها، وتحقيق القيمة المضافة إليها.
ومن جانبها أَوْلَتْ حكومةُ "القاهرة" اهتمامًا كبيرًا بتنمية وتطوير الاستزراع السمكيِّ، خاصَّة في منطقة بورسعيد ودمياط، وبُحيرة المنزلة، والتي تحولَّت إلى مياه شبه عذبة، وتشكِّل هذه المزارع حاليًّا نحو 40% من الناتج المحلي من الأسماك.
كما دخل عددٌ من الشركات السُّعودية في مجال الاستزراع السمكيِّ؛ على رأسها شركة الروبيان الوطنيَّة، والتي أنشأتْ أكبرَ المشاريع المتكاملة للاستزراع المائي على الساحل الصحراوي في العالَم، باستثمارات تصل نحو 350 مليون دولار، وتُصدِّر ما يربو على 13 ألف طنٍّ سنويًّا من أسماك الروبيان، إلى أكثرَ من 30 دولة، إلى جانب الشركة السُّعودية للأسماك، التي تُساهم حكومةُ "الرياض" فيها بنسبة 40 %، ويتركَّز نشاطها على صيد الثروة السمكيَّة الحية واستثمارها، وكذلك تصنيعها وتسويقها على النطاقين المحليِّ والعالمي، إضافةً إلى استزراع الأحياء المائية.
تقديرات وإحصاءات:
وعن حجم الإنتاج الكُليِّ، تشير بيانات منظَّمة الأغذية والزراعة (الفاو)، إلى أنَّ الإنتاج السمكيَّ العربيَّ من جميع المصادر، بلغ نحو 2.8 مليون طن؛ أي: حوالي 2.6 % من الإنتاج العالمي، البالغ 130.2 مليون طن.
فيما تُشير تقديرات أخرى إلى أنَّ صادراتِ الوطن العربي من الأسماك تبلغ قيمتها 969 مليون دولار في المتوسط سنويًّا، وتتركز هذه الصادرات في ثلاث دول، هي: موريتانيا (44%)، المغرب (31.4%)، وسلطنة عُمَان (13.2%)، إلى جانب تونس والصومال.
فيما شهدتِ الصادرات السمكيَّة اليمنيَّة تراجعًا كبيرًا خلالَ الفترة الأخيرة، حيثُ أوضح غازي أحمد الأحمر - وكيل وزارة الثروة السمكيَّة - أنَّ عائداتِ اليمن من صادرات الأسماك، والأحياء البحرية خلالَ التسعة الأشهر الأُولى من العام الماضي - تراجعت لتصل إلى 151.358 مليون دولار، مقارنة بـ 191 مليون دولار خلالَ نفس الفترة من العام 2007، معلِّلاً التراجعَ بمنْع تصدير بعض أنواع الأسماك المستهلكة داخليًّا؛ بهدف تلبية احتياجات السُّوق المحليَّة.
وفي مصرَ، ورغمَ امتلاكها العديدَ من البُحيرات والسَّواحل البحريَّة، إلى جانب نهر النيل، إلاَّ أنَّها تشهد خسائرَ سنوية تقدَّر بنحو 100 مليون دولار، بسبب توقُّف صادراتها إلى دول الاتحاد الأوربي؛ نتيجةَ عدم موافاة المفوضية الأوربيَّة بالقواعد الكاملة لتداول الأسماك في مصر، حتَّى يمكنَ منحُها الترخيص للتصدير للأسواق الأوربيَّة، وَفقًا للقواعد والشروط المعمول بها في الاتحاد الأوربي، علاوةً على تدنِّي متوسط استهلاك الفرد السَّنوي للأسماك، مقارنةً ببقية دول العالَم، حيثُ يبلغ من 2.5 إلى 6 كيلو جرام، بينما نجده 35.9 كيلو جرام في اليابان، 26.1 كيلو جرام في أسبانيا، ومعدل استهلاك الفرد من الأسماك سنويًّا في مصر يعتبر متدنيًا أيضًا مقارنةً بنصيب الفرد المحدَّد بواسطة هيئة الصِّحة العالمية، والذي يُقدَّر بأكثر من 11 كيلو جرام سنويًّا، ولعلَّ ما يُفسِّر ذلك هو ضعفُ الإنتاج المصريِّ عامَّة، والذي يمثل 2.5% من الإنتاج الأفريقي.
ضرورات وتحديات:
يؤكِّد الخبراء على أنَّ الأمن الغذائيَّ العربيَّ يرتبط بمحدَّدات، تؤثِّر بصورةٍ كبيرة على الإنتاج الزراعيِّ، على رأسها نقصُ المياه والجفاف، لا سيما أنَّ معظم الدُّول العربيَّة تعاني مِن نُدرة الأمطار، وقلَّة الموارد المائيَّة، حيثُ يبلغ متوسط نصيب الفرد من المياه المتاحة في الوطن العربي نحو 876 مترًا مكعَّبًا، تعادل نحو 10 في المائة من نصيب الفرد على المستوى العالمي، وبالتالي ينعكس ذلك في صورة نقصِ مصادر الغذاء الحيوانيِّ في الداخل، وضرورة استيرادها من الخارج، مما يشكِّل أعباءً كبيرة على ميزان المدفوعات العربيَّة، ومِن ثَمَّ تشكِّل الثروة السمكيَّة مكونًا مهمًّا في قاعدة الموارد العربيَّة، التي يمكن أن تُسهمَ في سدِّ الفجوة الغذائيَّة من البروتين الحيواني، حيثُ إنَّ الموارد السمكيَّة تتيح مجالاتٍ أوسعَ لزيادة حجم الإنتاج، وتحقيق فائض تصديريٍّ، يحقِّق دخلاً من العملات الصَّعبة يُساهم في النُّهوض بخطط التنمية في الدول العربيَّة.
ولا يَفوتُنا هنا الإشارة إلى دَور المنظَّمة العربية للتنمية الزِّراعيَّة، في تطوير قطاع الثروة السمكيَّة في الوطن العربي؛ حيثُ قامت بتنفيذ العديد من الدِّراسات البحثيَّة، والمشروعات التطبيقيَّة ، والدورات التدريبيَّة، بغرض ترقية أداء العاملين في هذا القِطاع، هذا بالإضافة إلى عَقد الندوات والمؤتمرات، ولقاءات المسؤولين عن هذا القِطاع الإستراتيجيِّ المهمِّ في الوطن العربي، كما تُدرِج المنظَّمةُ ضمنَ بَرامج عملها السنويَّة الحالية والمستقبليَّة برامجَ خاصَّةٍ بتنمية الثروة السمكيَّة في الوطن العربيِّ، وتتضمن مكوناتُ تلك البرامج إعدادَ دراسات استطلاعيَّة؛ للتعريف بمحدَّدات وآفاق تطوير هذا القِطاع على المستويات القطريَّة، وكذلك تنفيذ بعض المشروعات الرَّائدة على مستوى الدُّول العربيَّة، وإعداد نماذجَ لمشروعات استثماريَّة في مجالات الإنتاج والتصنيع والتسويق، بما في ذلك مُدخلاتُ الإنتاج، وسُبُل الصَّيد، كما تتضمن البرامجُ عقدَ دورات تدريبيَّة في مجالات الإحصاءاتِ السمكيَّة، وتقنيات الأسماك، وتقييم المخزون السمكيِّ.
ورَغمَ كلِّ الجهود السابقة إلاَّ أنَّ الثروة السمكيَّة العربيَّة يتهدَّدُها عدد من الأخطار، على رأسها التلوثُ، واتباع وسائل صيد خَطِرة، وعدم الاهتمام بأوضاع الصيَّادين أنفسهم؛ ممَّا يؤثِّر على الإنتاجية، ويُلحق بها أضرارًا صحيَّةً بالغة، فما زالت العديد من الدُّول العربية تسمح بإلقاء مخلَّفات المصانع والصَّرْف الصِّحي والنفايات الأخرى في الأنهار والبحار، ممَّا يُشكِّل تدميرًا مباشرًا لثرواتنا السمكيَّة، وأدَّى في الوقت نفسه إلى انقراض أنواعٍ من الأسماك، إلى جانب بعض الحكومات العربيَّة بتجفيف أجزاء من بحيراتها.
وفي هذا السِّياق يؤكِّد الدكتور عبدالرحمن سلامة، رئيس قسم الاقتصاد بالمعمل المركزي لبحوث الثروة السمكيَّة المصريَّة: أنَّ مشكلة التلوث تأتي على قائمة المشاكل التي تَعوق عمليةَ تنمية الاستزراع السمكي، وتؤدِّي إلى تدهور الإنتاج السمكيِّ كمًّا ونوعًا.
وتُشير التقديرات إلى أنَّه خلالَ العام الماضي استقبلتِ البحيرات المصريَّة نحو 5.3 مليون طن من الأسمدة، و20 ألف طن من المبيدات، إضافةً إلى المخلفات الصناعيَّة وغيرها، والتي أدَّتْ إلى نفوق 50% من الكائنات البحريَّة الموجودة بها.
وعليه؛ فمِنَ الضروري بذْلُ كلِّ الجهود للحفاظ على الثروة السمكيَّة العربية، ووضع قوانين تجرِّم إلقاءَ مختلف النفايات الضارَّة في مجاري الأنهار والبُحيرات، ووضع برامج توعيةٍ للمواطنين والصيَّادين بصفة خاصَّة حولَ خطورة تلوث المجاري المائيَّة، وتحديد الفترات الملائمة للصَّيد، مع ضرورة اتباع طرقٍ جديدة في التكنولوجيا الحيويَّة لإنتاج سُلالاتٍ من الأسماك عالية الإنتاج، حسب رأْي العديد من الخبراء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق